«مرسى فاطمة»، الصادرة عن المركز الثقافي العربي في طبعتها الأولى، للعام 2013م للروائي العربي الإرتري حجي جابر. رواية تترافع عن قضية الإنسان المعزول في جحور عارية أطلقت عليها الأمم المتحدة مصطلح (مخيمات)، وتحامي عن نصف وطن لاجئ. هذا اللجوء القاتم، القاتل، القائم على أقدام الجوع. المعزول بين حدودين وأزمات متعددة. هذا اللجوء السائر بالإلهام إلى أبعد حدود البكاء، وأصعب مراحل الصمود، وأقسى أنماط الهروب. رواية ضمير إنساني، لروائي إنسان لامس الثغور، وقاست حروفه ألم البؤس قبل أن تفرز وتحشر بين دفتي كتاب. رواية لروائي يعتق تجربته الثانية بنجاح التجربة الأولى وطعم البشرة السمراء التي تقاوم لأجل إثبات الوجود، وعلو الصوت، وكسر عمر العوز. هذا العمل الروائي الدرامي القادم من وراء الأسرار، وبقايا الاستعمار، والحروب الشرسة التي لم يتبق بعدها غير جنس بشري عاش ويعيش بين كل ما هو ملتهب وعذاب، ومرفوض أو منبوذ.. يحيطه جدار معزول لا عازل تعلق عليه الأمم المتحدة صورها الملتقطة ونتائجها الفاشلة في اختباراتها الأرضية. عمل في مجمله تراوح بين (الإبداع المتقن، والإيعاز للبوح الشعري في القيام بمجمل أحداث الألم)، ولا يعني حكمي هذا على الرواية هو الفيصل بين الأحكام التي أطلقت والتي لاشك أنها ستطلق لاحقا على عمل جدير بالقراءة والدراسة المتقصية والمقطبة الجبين، إنما هو مجرد رأي قارئ حيال ما قرأه.. وترجع هذه الجدارة من وجهة نظري لأسباب، منها: كونها حركت راكدا عربيا تحاول الثقافات الإبداعية طمس معالمه وحقائقه عن الأجيال. وكونها رواية إبداعية تصويرية. ليلتقي هذان السببان والأسباب الفنية الأخرى في الرواية خادمة العمل ومروجة له: على أنه نص إنساني إبداعي أزلي كان عليه أن يُكتب بطريقة النثر الشعري والشعر النثري في آن واحدة. وكأني بأحاسيس الروائي وهي تقول: مالا يمكن أن يطوله الروائي بالسرد يمكن للشعر أن يسانده في مسيرة تمتد لأكثر من 254 ورقة تتقاسمها: الإيحاءات، والخيالات، والاستعارات، والتشبيهات. والبلاغة الخارجة من أعضاء البشر المصادرة. وضمير الأمم المتراكم على بعضه منذ أجيال.
هذا الإيحاء من الروائي قبل الولوج في عوالمه السردية كان خطا عريضا مملوء بالصدق. وبمثابة رسالة من الروائي إلى قرائه أن الوطن هو روايته وسيرته. وبالفعل جاء النص مصداقا لإيحائه الافتتاحي. لمثل هذا تظهر البدايات الصادقة الجادة. وبمثل هذه الأعمال السارقة للنعاس، والمترافعة قانونيا عن وطن كأي وطن غير أنه قسم عدة مرات بعدة أزمنة مختلفة. أو بالأصح كما تشير الرواية إلى أنه سلِب عدة مرات. وعزِل عدة قرون. ومزق كثيرا: باستعمار، فثورات، فحروب أهلية، فتمزيق بين لاهوت إرهاب متكوم في أذهان اعتزلت بأقاصي الدنيا معتدة بسلاح جاهز لكل مصالح أصحابه إلا حماية الوطن. عمل يدون عددا من المراحل، ويصرخ في عدة اتجاهات. عمل روائي يبكي ويبكي.
* * * *
في هذه الرواية بدا لي المكان أكثر أهمية من الزمان؛ لذلك جاء أكثر تماسكا. وبرأيي أن المكان الذي تناوله الروائي في (مرسى فاطمة) استطاع أن يستنسخ من بعضه عدة أمكنة، ويهجن أخرى يرتفع فيها سقف الحب الأعلى أو الحزن الأتقى. لذا كان المكان وحده القادر على إثبات وجوده في وطن تحدوه التحديات وتسير فيه الأعضاء البشرية من وعاء أصحابها إلى طرق غير مشروعة: لا عالميا، ولا إنسانيا، ولا دينيا سماويا أو وضعيا. ما عرض له الروائي القدير حجي جابر في روايته لا يمكن تناوله بدقة في قراءة مصغرة كهذه؛ لأنه بحاجة إلى دراسة موسعة، وشرح وافٍ، وتوسع سيكيولوجي لكل نفوس أبطاله، وحالات محيطهم الأليم.
هذا العمل برأيي الشخصي سعى ليثبت لنا حقيقة انكسار ضوء الإنسانية على مساحات الوجود. ولتأكيد قساوة أصحاب هذا الكوكب. اعتمد على مقاطع سردية تجاوزت خفقات الألم ورثاء الحب المفقود وأوغلت في تضاريس أهل الوطن، وعينات غيبية يتوجب عليها ألا تشارك البشرية هذه الأرض. فابتداء بـــ (مرسى فاطمة) والحب الناهض يتجرع القلق، ويسقي نفسه آمالا تخاف وطنها، وما يخفيه من ويلات عجزت الأمم عن فك طلاسمها ــ مع قدرتها ــ أو تربيط سطحها مع قدراتها وإمكاناتها، أو إعادة الفرع إلى الأصل، ونصف الوطن إلى كامله مع امتلاكها كامل الصلاحيات لفعل ذلك. ووقوفا عند (ساوا) المرتدي بزة الوطن، المعلِن للشباب حقائق غير التي انتظرتهم خلف قضبانه.. يقول الروائي على لسان أحد الضباط المتورطين في تعذيب الشباب الإرتريين بقداسة الوطن: «.. أنتم شرفاء، لستم كأولئك الخونة الذين يتهربون من الخدمة الوطنية. لا معنى للحياة بعيدا عن العسكرية، وبعيدا عن حماية الوطن الذي يتربص به الأعداء من كل جانب» ص 35. فيما أن القارئ سيعرف حقائق أخرى لــ (ساوا) مختلفة تماما عن هذه التوشيحات، والأهازيج الجوفاء. ومرورا (بالشفتا) الجالسة على سلاح من بشر.. ذخيرته الموت أو الحياة: الموت لفقير وما أكثرهم ولو حرصت بميتين. والحياة للمحظوظين أمثال البطل، وبعض من أنقذهم بفعل إنسانيته وسلطة ما حفظه له الوفاء من مال. وانتهاء (بالشجراب) ذلك العذاب الدائم، والحزن الذي أنجب الوفاء في أبلغ آياته. والحب في أندر لوحاته. والتضحيات في أسمى صورها.
* * * *
لا يمكن أن يكون ما كتبه الروائي مجرد همس نفسي، أو حسٍ خيالي فحسب إنما هو لمسة إنسانية متأصلة في نفوس البشر وفطرة كونية خربتها أيادٍ سمراء وسعت لإبقائها ولو على فراش الموت أيادٍ سمراء أخرى. ما أحدثه (أمير ) في (الشجراب) مع بطل الرواية هو ما أحدثه (جبريل) مع البطل ذاته قبل ولوجه إلى (ساوا) وهذان الحدثان قمة في الخلق الروائي والإنجاب الفكري والصورة الحركية التي تتوغل في الصدر فتظل ساكنة فيه لتترافع عن خامة هذا الوجود الأسمر الذي هو نسخة من أبونا آدم، ومسحة رحيمة من يد محمد عليهما السلام. فلنشاهد معا ما حدث في لوح حجي جابر الذي يصف وفاء جبريل بقوله: «فشل جبريل في الأسبوعين الماضيين في ثنيي عن قراري جعله يحاول مساعدتي ماديا، ويبدو أنه لم يشأ أن يخرج خاسرا في كلتا الحالتين». ص 36. فيما يصف وفاء أمير بحس أكثر تحضرا وندرة للوفاء يقول: «لم تغادر كارلا إلا حين أفشت لي السر، كان عرض السفر موجها في الأساس لأمير حين علمت بقصته، لكنه رجاها أن تساعدني عوضا عنه. يأبى أمير إلا أن يقيدني بالفضل حتى آخر عمري. بدا سعيدا حتى وأنا أتنازل عن فرصتي بعد أن أضعتها عليه». ص 246.
أمر المكاشفة الروحانية في الرواية واضح جدًا. وكأن الكاتب يرصد حياة إنسان حقيقية، ويوحي بعدة لوحات شعرية وأخرى نثرية على أنها سيرة ذاتية لشخص ما .. إلا أنني من وجهة نظري أنزهه الرواية والروائي عن كونهما يحكيان حكاية إنسان واحد، أو فردٍ بعينه وإنما هي في مجملها سيرة ذاتية لوطن بأكمله. وأرى أنها تجاوزت هذا الوطن وغدت رسالة لعدة أوطان عربية وافريقية وعالمية أتى الجوع فيها أكله، وتناولتها أعين العالم بغض البصر، وصم القلب.
* * * *
أبطال هذه الرواية أخذوا حقوقهم كأبطال وأنصِفوا كأبطال على ورق الخلود: فأم أواب أصل شجرة الوطن الأقوى والصبر والتقوى. وأمير ركن التضحية النادر. وجبريل الوفاء المعقود في يد سمراء. ومنجوس الخيلاء والنهايات المستحقة. وعلي الخارج من الجنسية الإرترية إلى السودانية لم ينجو من طبيعته ولم تغير الأوطان فيه شيئا أصلا. وإبراهم الحكيم. ومازن الإضافة الزائدة. وكداني الروحانية العميقة، والصلب الذي لا يقهر. وكارلا الخلاص. هؤلاء هم أبطال حجي جابر فأتوا يا روائيين بأبطال مثلهم إن جمعتنا المكاتب.
وأخـيرا: شكرا أيها الروائي العربي الأصيل على عمل بلون أشعة الشمس، وطعم الحزن الأسمر.
• كاتب وروائي سعودي.
J.MAdkhali@hotmail.com
هذا الإيحاء من الروائي قبل الولوج في عوالمه السردية كان خطا عريضا مملوء بالصدق. وبمثابة رسالة من الروائي إلى قرائه أن الوطن هو روايته وسيرته. وبالفعل جاء النص مصداقا لإيحائه الافتتاحي. لمثل هذا تظهر البدايات الصادقة الجادة. وبمثل هذه الأعمال السارقة للنعاس، والمترافعة قانونيا عن وطن كأي وطن غير أنه قسم عدة مرات بعدة أزمنة مختلفة. أو بالأصح كما تشير الرواية إلى أنه سلِب عدة مرات. وعزِل عدة قرون. ومزق كثيرا: باستعمار، فثورات، فحروب أهلية، فتمزيق بين لاهوت إرهاب متكوم في أذهان اعتزلت بأقاصي الدنيا معتدة بسلاح جاهز لكل مصالح أصحابه إلا حماية الوطن. عمل يدون عددا من المراحل، ويصرخ في عدة اتجاهات. عمل روائي يبكي ويبكي.
* * * *
في هذه الرواية بدا لي المكان أكثر أهمية من الزمان؛ لذلك جاء أكثر تماسكا. وبرأيي أن المكان الذي تناوله الروائي في (مرسى فاطمة) استطاع أن يستنسخ من بعضه عدة أمكنة، ويهجن أخرى يرتفع فيها سقف الحب الأعلى أو الحزن الأتقى. لذا كان المكان وحده القادر على إثبات وجوده في وطن تحدوه التحديات وتسير فيه الأعضاء البشرية من وعاء أصحابها إلى طرق غير مشروعة: لا عالميا، ولا إنسانيا، ولا دينيا سماويا أو وضعيا. ما عرض له الروائي القدير حجي جابر في روايته لا يمكن تناوله بدقة في قراءة مصغرة كهذه؛ لأنه بحاجة إلى دراسة موسعة، وشرح وافٍ، وتوسع سيكيولوجي لكل نفوس أبطاله، وحالات محيطهم الأليم.
هذا العمل برأيي الشخصي سعى ليثبت لنا حقيقة انكسار ضوء الإنسانية على مساحات الوجود. ولتأكيد قساوة أصحاب هذا الكوكب. اعتمد على مقاطع سردية تجاوزت خفقات الألم ورثاء الحب المفقود وأوغلت في تضاريس أهل الوطن، وعينات غيبية يتوجب عليها ألا تشارك البشرية هذه الأرض. فابتداء بـــ (مرسى فاطمة) والحب الناهض يتجرع القلق، ويسقي نفسه آمالا تخاف وطنها، وما يخفيه من ويلات عجزت الأمم عن فك طلاسمها ــ مع قدرتها ــ أو تربيط سطحها مع قدراتها وإمكاناتها، أو إعادة الفرع إلى الأصل، ونصف الوطن إلى كامله مع امتلاكها كامل الصلاحيات لفعل ذلك. ووقوفا عند (ساوا) المرتدي بزة الوطن، المعلِن للشباب حقائق غير التي انتظرتهم خلف قضبانه.. يقول الروائي على لسان أحد الضباط المتورطين في تعذيب الشباب الإرتريين بقداسة الوطن: «.. أنتم شرفاء، لستم كأولئك الخونة الذين يتهربون من الخدمة الوطنية. لا معنى للحياة بعيدا عن العسكرية، وبعيدا عن حماية الوطن الذي يتربص به الأعداء من كل جانب» ص 35. فيما أن القارئ سيعرف حقائق أخرى لــ (ساوا) مختلفة تماما عن هذه التوشيحات، والأهازيج الجوفاء. ومرورا (بالشفتا) الجالسة على سلاح من بشر.. ذخيرته الموت أو الحياة: الموت لفقير وما أكثرهم ولو حرصت بميتين. والحياة للمحظوظين أمثال البطل، وبعض من أنقذهم بفعل إنسانيته وسلطة ما حفظه له الوفاء من مال. وانتهاء (بالشجراب) ذلك العذاب الدائم، والحزن الذي أنجب الوفاء في أبلغ آياته. والحب في أندر لوحاته. والتضحيات في أسمى صورها.
* * * *
لا يمكن أن يكون ما كتبه الروائي مجرد همس نفسي، أو حسٍ خيالي فحسب إنما هو لمسة إنسانية متأصلة في نفوس البشر وفطرة كونية خربتها أيادٍ سمراء وسعت لإبقائها ولو على فراش الموت أيادٍ سمراء أخرى. ما أحدثه (أمير ) في (الشجراب) مع بطل الرواية هو ما أحدثه (جبريل) مع البطل ذاته قبل ولوجه إلى (ساوا) وهذان الحدثان قمة في الخلق الروائي والإنجاب الفكري والصورة الحركية التي تتوغل في الصدر فتظل ساكنة فيه لتترافع عن خامة هذا الوجود الأسمر الذي هو نسخة من أبونا آدم، ومسحة رحيمة من يد محمد عليهما السلام. فلنشاهد معا ما حدث في لوح حجي جابر الذي يصف وفاء جبريل بقوله: «فشل جبريل في الأسبوعين الماضيين في ثنيي عن قراري جعله يحاول مساعدتي ماديا، ويبدو أنه لم يشأ أن يخرج خاسرا في كلتا الحالتين». ص 36. فيما يصف وفاء أمير بحس أكثر تحضرا وندرة للوفاء يقول: «لم تغادر كارلا إلا حين أفشت لي السر، كان عرض السفر موجها في الأساس لأمير حين علمت بقصته، لكنه رجاها أن تساعدني عوضا عنه. يأبى أمير إلا أن يقيدني بالفضل حتى آخر عمري. بدا سعيدا حتى وأنا أتنازل عن فرصتي بعد أن أضعتها عليه». ص 246.
أمر المكاشفة الروحانية في الرواية واضح جدًا. وكأن الكاتب يرصد حياة إنسان حقيقية، ويوحي بعدة لوحات شعرية وأخرى نثرية على أنها سيرة ذاتية لشخص ما .. إلا أنني من وجهة نظري أنزهه الرواية والروائي عن كونهما يحكيان حكاية إنسان واحد، أو فردٍ بعينه وإنما هي في مجملها سيرة ذاتية لوطن بأكمله. وأرى أنها تجاوزت هذا الوطن وغدت رسالة لعدة أوطان عربية وافريقية وعالمية أتى الجوع فيها أكله، وتناولتها أعين العالم بغض البصر، وصم القلب.
* * * *
أبطال هذه الرواية أخذوا حقوقهم كأبطال وأنصِفوا كأبطال على ورق الخلود: فأم أواب أصل شجرة الوطن الأقوى والصبر والتقوى. وأمير ركن التضحية النادر. وجبريل الوفاء المعقود في يد سمراء. ومنجوس الخيلاء والنهايات المستحقة. وعلي الخارج من الجنسية الإرترية إلى السودانية لم ينجو من طبيعته ولم تغير الأوطان فيه شيئا أصلا. وإبراهم الحكيم. ومازن الإضافة الزائدة. وكداني الروحانية العميقة، والصلب الذي لا يقهر. وكارلا الخلاص. هؤلاء هم أبطال حجي جابر فأتوا يا روائيين بأبطال مثلهم إن جمعتنا المكاتب.
وأخـيرا: شكرا أيها الروائي العربي الأصيل على عمل بلون أشعة الشمس، وطعم الحزن الأسمر.
• كاتب وروائي سعودي.
J.MAdkhali@hotmail.com